تُقدم سلسلة مقالات
رِحْلَةُ التَّعَلُّم
الكاتبة: نُهى عَلوي الحِبشي
البُلْغَة (المال الكافي)
تعرفنا في المقال السابق على متطلبات معنوية وصفات شخصية نحتاجها في رحلة التعلم وهي الاجتهاد والمثابرة. ومن المعروف أن أجسامنا لا تتحمل الاجتهاد في التعلم والمثابرة عليه إذا لم نتزود بطعام أو نحتمي بمسكن أو نكتسي بملبس وغيرها من احتياجاتنا في الحياة، لذلك نتعرف في هذا المقال على المتطلبات المادية لرحلة التعلم والتي أوجزها الإمام الشافعي بكلمة واحدة "بُلْغَة":[1]
أخي لَن تَـنَــالَ العِـلْمَ إلَّا بِـسِـتَّـةٍ سأُنبيك عَنْ تَـفْـصيلِهَا بِبَيانِ
ذَكَاءٌ، وَحِرْصٌ، واجـتِهَادٌ، وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَـاذٍ، وَطُـولُ زَمَـانِ
ماذا نعني بالبُلْغَة؟
في اللغة العربية تعني البُلْغَة "كفاف من العَيش أو ما يُتبلَّغ به (لا يكاد يحصل على البلغة من العيش)، نصيبُ بُلْغةٍ: ما يكاد يكفي من العَيش".[2] فالبلغة تشمل المال الذي يكفي الفرد ليتوصل ويتبلغ به إلى تلبية احتياجاته في الحياة. وكما هو معروف فإن المال هو "كل ما يملكه الفردُ أو تملكه الجماعةُ من متاع أو عروض تجارة أو عقار أو نقود أو حيوان".[3]
لماذا نهتم بالبُلْغَة؟
من البديهي أن أي فرد – سواء كان سائرًا في رحلة التعلم أم لا – يحتاج إلى البلغة (المال الكافي) لتحقيق متطلبات أساسية في حياته، مثل الطعام والشراب والملبس والمسكن، بالإضافة إلى استعمال ما يفيض لديه من المال لتحقيق متطلبات نسبية تختلف من فرد إلى آخر. ومن المتطلبات المادية الأساسية في رحلة التعلم الكتب وأدوات الكتابة والبحث وغيرها، وقد يحتاج طالب العلم أيضًا إلى دفع رسوم التسجيل في بعض المدارس والجامعات والمعاهد والدورات والبرامج. ولخص د. حسين أمين الوظائف العامة التي يقوم بها المال:[4]
- وسيلة لتبادل السلع والخدمات (تشمل سلع وخدمات التعليم)
- وسيلة لتقييم كل سلعة وكل خدمة
- وسيلة لتخزين فائض المال
- وسيلة للإقراض والاقتراض
كيف ننمي البُلْغَة؟
في البداية نذكر المصادر العامة للحصول على المال:[5]
- ما ينجزه الفرد من عمل
- ما يُعطى له من الآخرين بدون عمل (كتبرع أو جائزة أو نفقة عائلية أو منحة دراسية)
- ما يرثه من أبيه وغيره
ويعتبر المصدر الأساسي لكسب وتنمية المال الذي يحصل عليه الفرد هو زيادة العمل الذي ينجزه كمًّا أو نوعًا؛ حيث لا يفضَّل أن يعتمد على المصادر الأخرى السابقة كالتبرعات والجوائز والميراث ولا حتى انتظارها! أما في حالة حصول الفرد على نفقة عائلية أو منحة دراسية تكفي لتلبية احتياجاته فيمكنه التفرغ للتعلم ثم العمل بما تعلمه.
وإن لم تتوفر النفقة أو المنحة أو أي مصدر مالي آخر، فعليه أولًا أن يسترزق الله من أي عمل شريف – حتى وإن لم يجد العمل الذي يطمح إليه – ليحصل على البلغة التي تسد احتياجاته واحتياجات من يرعاهم. ثم إذا توفر له المال الكافي والقدرة والرغبة يمكنه أن يكمل رحلة التعلم، فرفع مستوى تعلم الفرد قد يمَكِّنه من الترقي في عمله أو الانتقال لعمل آخر أنسب لقدراته ورغباته وطموحاته.
وبصفة عامة، تنقسم الأعمال من حيث طبيعتها إلى نوعين:
وهو المتميز باستعمال الفكر في إبداع أفكار أو أشياء جديدة، أو في الاستنتاج من معلومات ووضع خطط وحل مشكلات، مع قليل من تشغيل اليدين.
وهو المتخصص بتنفيذ مهام باستعمال اليدين أو العضلات والعينين وباقي الجوارح، مع قليل من إعمال العقل.
وبما أن المؤهلات الأساسية للعمل اليدوي – كاليدين وورش العمل والمعاهد – غالبًا لا تتطلب مالًا كثيرًا، لذلك إن المال الذي يكسبه الفرد مقابل تدريبه وجهده اليدوي يكون عادة أقل من المال الذي يكتسبه فرد آخر مقابل تعليمه وجهده العقلي. حيث أن المؤهلات الأساسية للعمل العقلي قد تتطلب الكثير من المال لتسديد رسوم الجامعات وشراء الكتب وغيرها. ولا تعني قلة المال المكتسب من العمل اليدوي على أنه أقل أهمية من العمل العقلي، فكل عمل شريف له أهمية خاصة؛ بحيث لا يستغني أي مجتمع عن الأيدي العاملة وعن العقول المفكرة وما يتراوح بينها. [6]
بعد أن يحصل الفرد على البلغة من المال، ومع استمراره في زيادة عمله كمًّا أو نوعًا، قد يفيض من ماله ما يمكن تنميته بعدة طرق منها:[7]
- الاستثمار في الأرض والعقار
مثل شراء قطعة أرض أو مباني سكنية أو تجارية ثم تأجيرها أو بيعها بعد ارتفاع قيمتها.
مثل إنفاق بعض المال في إكمال الدراسات العليا أو الدورات، ثم الربح من الخبرة الناتجة من التعلم أو من الترقية في العمل أو من فرص عمل جديدة.
- الاستثمار في الأفكار والمنتجات والمشاريع
مثل تأليف وبيع كتب أو افتتاح محل تجاري أو تأسيس شركة رائدة والربح منها.
ومن المهم أن ندرك الفرق بين البلغة والمبالغة؛ فالبلغة – كما تعرفنا عليها – هي المال الذي يكفي الفرد ليتبلغ به إلى تلبية احتياجاته ومنها احتياجات التعلم. أما المبالغة في كسب المال الذي يتجاوز ما يكفي حاجة الفرد – ومن يرعاهم – فلا يعتبر من متطلبات رحلة التعلم؛ فالاستكثار من المال له أهداف متعددة قد تسمو كالمشاركة في العطاء وتنمية الفرد والمجتمع والبحث العلمي والتطوير، وقد تدنو أهداف المبالغة في كسب المال كالتفاخر والاستبداد والرشاوى وغيرها للأسف.
|