تُقدم سلسلة مقالات
رِحْلَةُ التَّعَلُّم
الكاتبة: نُهى عَلوي الحِبشي
و طُول زمان
بما أن صحبة المعلمين – في المقال السابق – تستلزم منا الاجتهاد في التعلم منهم والمثابرة على حضور دروسهم، وبما أن بحار العلوم والمعارف لا ساحل لها لتفرعها وتجددها، فإن الاجتهاد والمثابرة على السير في رحلة التعلم تستغرق زمنًا طويلًا. لذلك كان آخر متطلبات الرحلة هو طول زمان كما ختم به الإمام الشافعي – رحمه الله – أبياته الشعرية، والتي ربما نكون قد حفظناها بتكرارها في المقالات السابقة:
أخي لَن تَـنَــالَ العِـلْمَ إلَّا بِـسِـتَّـةٍ سأُنبيك عَنْ تَـفْـصيلِهَا بِبَيانِ
ذَكَاءٌ، وَحِرْصٌ، واجـتِهَادٌ، وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَـاذٍ، وَطُـولُ زَمَـان
ماذا نعني بطول زمان؟
تطلق كلمة زمان في اللغة العربية على ثلاثة معانٍ: "وقت قصير أو طويل، مدة الدنيا كلها، ويقال له الدهر، وعصر".[1] ويشير معنى مدة الدنيا كلها أو الدهر إلى مدى الحياة، فمن معاني طول زمان التعلم: التعلم مدى الحياة، أي أن يستمر الفرد بالتعلم طوال عمره. "يتطلب مفهوم التعلم مدى الحياة حدوث تحول مفاده الانتقال من التركيز على التعليم والتدريب إلى التركيز على التعلُّم، ومن التدريس القائم على نقل المعارف إلى التعلم من أجل تنمية القدرات الذاتية، ومن اكتساب مهارات خاصة إلى استكشاف الأمور على نطاق أوسع وإلى إطلاق الطاقات الإبداعية وتسخيرها."[2]
لماذا نهتم بطول زمان التعلم؟
أظهرت دراسات علمية ترجم منها د. محمد رواس و د. نيفين البركاتي أن عملية التعلم تعتمد على عمليات التفكير والذاكرة، وتمر بعدة مراحل تحدث في أجزاء محددة من الدماغ. تتم بعض المراحل بتلقائية وبسرعة البرق كمرحلة إدخال المعلومات من حواسنا. بينما بعض المراحل كتخزين المعلومات قد تستغرق ساعات أو أيامًا أو حتى أسابيع، وتم إثبات "أن ارتباطات التعلم تتطلب وقتًا وتنقيحًا." [3]
ومن ناحية أخرى، تكمن أهمية التعلم مدى الحياة في تحقيقه للغايات العالمية للتعليم، التي لخصتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو):
- "توفير الرعاية والتربية في مرحلة الطفولة المبكرة
- توفير تعليم أساسي جيد
- محو أمية الشباب والكبار
- اكتساب المهارات اللازمة للحياة والعمل من خلال الالتحاق بالتعليم التقني/المهني وبالمرحلة العليا من التعليم الثانوي وبالتعليم العالي
- اكتساب المعارف والمهارات لإنشاء مجتمعات مستدامة وسلمية".[4]
كما أكدت اليونسكو على أهمية مواصلة التعلم مدى الحياة للأسباب التالية:[5]
"إذا ما أُريد للتعليم أن يتصدى بفعالية للتحديات التي تطرحها التغيرات المتلاحقة والمتواصلة التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، فإن عملية التعلم ينبغي أن تتواصل طوال الحياة."
"يرسخ التعلم مدى الحياة من منظور اليونسكو قيم السلام والديمقراطية والتسامح والتفاهم بين الثقافات والتكافؤ بين الجنسين والاهتمام بكوكب الأرض."
واستشعارًا لأهمية التعلم مدى الحياة قررت اليونسكو بأن يكون أول أهدافها الاستراتيجية في ميدان التعليم في الفترة 2014-2021 هو "تطوير نظم التعليم لتعزيز التعلم الجيد والجامع مدى الحياة لصالح الجميع."[6]
كيف نستثمر طول زمان التعلم؟
قال الله تعالى في سورة النحل: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) ". فكما أننا جميعًا ولدنا ونحن لا نعلم شيئًا، فإننا جميعًا أيضًا بدأنا رحلة التعلم منذ طفولتنا، بداية فطرية وبمساعدة الوالدين أو من قام بتربيتنا. فالطفل عندما يجوع مثلًا يعبر عن حاجته بالبكاء، فهو لا يعرف وسيلة أخرى غيرها. وبعد أن يتعلم الأسماء يستطيع أن يعبر عن احتياجاته باللغة. ويتعلم الزحف ثم الوقوف ثم المشي ثم الجري، ويدفعه حب الاستطلاع للمس الأشياء مثلاً ثم لطرح الأسئلة، وتقليد من حوله ويتعلم منهم. ففي كل مرحلة عمرية من حياة الإنسان تنمو معرفته وقدرته على التعلم. وقد حدد د. جان بياجيه (Dr. Jean Piaget) – كما ترجم عنه د. محمد طه – أربع مراحل أساسية للنمو المعرفي:
- " المرحلة الحسية – الحركية Sensory-Motor Stage
تشمل الفترة من بداية حياة الطفل وحتى انتهاء العام الثاني من عمره. وهي فترة يتعامل الطفل فيها مع الواقع من خلال الجوانب الحسية-الحركية، حيث لا مجال لعمليات التفكير في هذه المرحلة.
- مرحلة ما قبل العمليات Preoperational Stage
تمتد من السنة الثانية إلى السنة السادسة أو السابعة من العمر. وهي تتميز بأنها تشهد بدايات عملية التمثيل العقلي، حيث يبدأ الطفل في بناء أنساق بسيطة من الرموز لتمثيل العالم في صور أو جمل أو شفرات.
- المرحلة العيانية – العملياتية Concrete-Operational Stage
تبدأ من السنة السابعة أو الثامنة وحتى السنة الحادية عشرة أو الثانية عشرة. وهي مرحلة تتميز بقدرة الطفل على تكوين تمثيلات عقلية أو ذكريات عن الأحداث ومعالجتها بشكل إيجابي ونشط.
- المرحلة الشكلية – العملياتية Formal-Operational Stage
تبدأ من سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وتستمر فيما بعد، حيث يبدأ التفكير لدى الأطفال في هذه المرحلة في أخذ ملامح وخصائص التفكير لدى الراشدين، وهي الملامح التي تتمثل في ازدياد قدرات التفكير والذكاء، كاتساق نطاق ودقة الذاكرة، وتزايد القدرة على حل المشكلات، والتعامل مع الرموز والتفكير المجرد. "[7]
فعندما نصل إلى مرحلة الرشد بنضج إدراكنا وتفكيرنا، ومع تحقيقنا متطلبات رحلة التعلم الملخصة في أبيات الإمام الشافعي السابقة، نقرر أن نستثمر أعمارنا وأعمالنا عن طريق تحديد أهدافنا، وتنظيم أوقاتنا، واختيار من مسارات الرحلة ما يوافق قدراتنا العقلية وميولنا الشخصية وطموحاتنا المهنية؛ حتى نعيش بسلام داخلي وخارجي مدى الحياة. ولكن ما هي مسارات رحلة التعلم؟ وما هي القدرات والميول والأعمال المناسبة لكل مسار منها؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالات الجزء الثاني من رحلة التعلم إن شاء الله.
|